هنا طرابلس... أمنها في يد شيخ وزعرانها «أولاد» لواء
تعيد المدينة رسم صورها: ساحة عبد الحميد كرامي غدت ساحة شادي المولوي الذي أشعل توقيفه، للتحقيق معه، عصياناً مسلحاً أقفل المدينة وقطع طرقاتها أربعة أيام. يهدي بائع الكعك الناصري السابق زبائنه كتيّباً مجانياً عن وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية. أزيلت بقايا سيارة البث المباشر التي أحرقها المتظاهرون في واحدة من محطات غضبهم، لكن آثار الحريق لا تزال مرئية قرب الرصيف خلف حاجز الجيش الذي أصابه المسلحون برصاص اعتراضهم على تمركزه هنا.
في هذا المبنى اختبأ الصحافيون من المسلحين الغاضبين ريثما يحضر النائب خالد ضاهر ويخرجهم. يمكن الفتاة التي تصادفها في الشارع أن تكون هي نفسها التي تداولت المواقع الإلكترونية صورها تمتشق السلاح وتطلق النار. يزين متجر الألعاب الكبير قرب التل واجهته بأعلام جبهة النصرة. يجاور مبنى عز الدين ـــ الذي حاول المسلحون مرة اقتحامه بحجة تبعيته لجمعية الرئيس نجيب ميقاتي ـــ مبنى لجمعية الوزير محمد الصفدي نال حصته من الاعتداءات أيضاً. هنا كاد المسلحون يقتلون الوزير فيصل كرامي. يخبر بائع الكتب على طرف الرصيف بانكسار عمّا لحق به وبكتبه وبالأموال التي كانت في جيبه عندما رأى بعض المارة كتاباً عن الرئيس حافظ الأسد وسط بسطته. هنا ربط شباب مدنيون فقيراً سورياً برقبته وجرّوه وسط الشارع حتى حديقة المنشية، لأنه «استخبارات سورية». هنا شُمِّع متجر الخمر بالأحمر. نقل موقف سيارات التاكسي إلى بانياس وطرطوس واللاذقية إلى «مكان آخر» خارج المدينة. ما عاد بائع الـ«سيديات» الذي كان مصدر لعلعة صوت جورج وسوف في التل كله يجرؤ على رفع الصوت. دكان «الشحتار» هذا كان محل خضر لـ«علويّ». زجاج واجهة الحلاق قربه يغطي الأرض، وكرسيّ المحل سُرق. «من سيسلم شعره ورقبته هنا لعلويّ؟»، يسأل جارهما. يمكن أن تحصي أربعين دكاناً مثلهما وعشرة مستودعات أكلتها النيران. ما عادت الباصات تقل الطلاب من قرى عكار المسيحية إلى كليات الجامعة اللبنانية في المدينة. قلة قليلة جداً من الزغرتاويين يتابعون دراستهم الجامعية في المدينة: باتت بيروت أقرب إليهم من طرابلس. نقل القسّ الإنجيلي كنيسته من المدينة بعدما ضاق وزوجته ذرعاً برجم جيرانهم لهم عند دخولهم وخروجهم، فيما القوى الأمنية تجيبهما بأن من يرشقونهما بالحجارة مجرد أطفال. في الزاروب الخلفي، هنا، أوقف الباص الذي كان يقلّ عمالاً من جبل محسن «باعهم» زملاؤهم في العمل لجيرانهم في باب التبانة. هذا المتجر في الأسواق أغلقه صاحبه احتجاجاً على خوات «أولاد» اللواء أشرف ريفي «الذين يدافعون عن كرامة المدينة». أما هذا فتعرض للتخريب وكاد يحرق بعد توقيف الجيش حاتم جنزرلي غداة إطلاقه النار على الجيش، لأن صاحبه يؤيد الرئيس نجيب ميقاتي. هنا وهنا وهنا، وفي نحو تسع نقاط أخرى، سقط شبان على أقدامهم، ظناً ممن يطلق النار عليهم أنه يحاسب الطائفة العلوية ويردع جبل محسن عبر «محاكمتهم» الميدانية. يمكن تعداد نحو ثلاثين زاوية أخرى أطلق المسلحون النار فيها على الجيش المرابط لمنعه من التحرك. تسأل عن بائع اليانصيب الذي تحبه؟ اعتدى عليه ملثمان، أدمياه بعد اكتشافهما طائفته وأكملا طريقهما. المتسوّل الأعمى المسن الواقف منذ عشرين عاماً قبالة شارع عزمي؟ ضُرب ورمي على الرصيف بسبب مذهبه هو الآخر. في محطة القطار التي كنت تسرّ بالتقاط الصور فيها يرابط عدة سارقين لا تجرؤ القوى الأمنية على دهمهم. هنا شُتم عضو كتلة المستقبل النائب السابق مصطفى علوش بعدما تذكر ناخبوه السابقين أن والدته علوية. وإلى هنا، حيث المرفأ المكتظ بمراكب الصيادين الملونة، كان يفترض أن تصل باخرة «لطف الله 2» لتفرغ حمولتها من الأسلحة. هنا أقفل مكتب لحركة التوحيد بعد طرد أهله منه في عملية عسكرية سريعة. وهنا اغتيل سعد الدين غيّة، وقبله حسام الموري والشيخ عبد الرزاق الأسمر، بسبب مواقفهم السياسية. هنا، في محيط جامعة الجنان، انفجر مخزن سلاح وهناك مصنع للعبوات. وهنا جامعا التقوى والسلام. وها هي محاور القتال بين باب التبانة وجبل محسن تتسع من ثلاثة تقليدية إلى سبعة وثمانية وحتى تسعة. يمكن أن تضم إلى مجموعة الصور الجديدة الخاصة بالمدينة صورة بلال محرز، سجين القبة الذي قال الحزب العربي الديمقراطي أمس إنه تعرض للتعذيب والتنكيل على أيدي زملائه داخل السجن لمجرد أنه علوي. يطل «الفاتح»، أو زعيم «جبهة النصرة»، أبو محمد الجولاني في مقابلة تلفزيونية فيستمر إطلاق الرصاص ابتهاجاً في المدينة سبع دقائق. يمر نعش الإرهابيّ الذي قتل المدنيين في الضاحية في المدينة فيلعلع الرصاص والتكبير في منطقة الملولة. وأخيراً، وليس آخراً طبعاً، مكتبة السائح التي يقدر صاحبها الأب إبراهيم سروج أن تكون النيران قد التهمت ثلث مخزونها الثقافيّ.
يمكن نواب المدينة وبعض فاعلياتها أن يتداعوا في مسرحية منظّمة لإضاءة شجرة عملاقة، وتكذيب ما أشيع عن إحراق مفتعل للشجرة غداة تزيينها. ويمكن تيار المستقبل أن يستمر في القول إن كل ما سبق ارتكبته الاستخبارات السورية التي لا تجد شيئاً تفعله، كما يبدو، في هذه الأيام سوى تشويه صورة طرابلس في رؤوس اللبنانيين. شعبياً، يقول أحد فاعليات المدينة المعتدلين، ثمة اختلال في التوازن. ومن مكتب إلى آخر، في أوساط المحامين والأطباء وبعض التجار، يتضح ما يقصده أكثر: ليس في المدينة سوى قلة قليلة تتفهم مواقف حزب الله المحلية والإقليمية. الأكثرية تعاديه، وتؤيد الأعلى سقفاً كلامياً في مواجهته. حين كان النائب محمد كبارة صاحب السقف السياسي الأعلى كانت المدينة معه، حين علا صوت الشيخ سالم الرافعي فوقه بات هو الزعيم الأول، وحين تجاوزهما اللواء أشرف ريفي بايعته المدينة. قبل عام، لم يكن أحد في المدينة يقبل الحديث عن ريفي كرقم انتخابي صعب، لكنه اليوم الرقم الانتخابي الأصعب بحسب المستهزئين به سابقاً. قبل عامين، لم يكن أحد يقبل ذكر داعي الإسلام الشهال ضمن مشايخ المدينة، وها هو اليوم يتقدم صفوفهم جميعاً. تدين المدينة بعض ممارسات الزعران وتستبشعها، لكن لا تجد فيها مبرراً لـ«ضبّهم». إخضاع هؤلاء سيفسّر انتصاراً إضافياً لحزب الله، لن تهديه إياه المدينة. ويسرّ بعض المطلعين أن الارتكابات لا تزال عفوية في الشكل، ولم تنتظم ضمن إطار تكفيريّ واضح وصارم. وعليه لا يمكن توقع مواجهات مماثلة لما تشهده بعض المدن السورية بين الجماعات التكفيرية والمجتمعات الحاضنة لها.
في الاعتصام التضامنيّ مع مكتبة السائح، أول من أمس، لم تحصل مشاركة شعبية توقعها كثيرون: فقط الناشطون التقليديون في بعض الجمعيات الأهلية، بعض الإعلاميين وبعض السياسيين، ومجموعة صغيرة من الإسلاميين، رغم التعبئة الكبيرة التي سبقت الاعتصام والإدانة الواسعة لإحراق المكتبة. تعيش المدينة في مكان آخر. من حرّض على الأب إبراهيم سروج قبيل إحراق مكتبته هي مجموعة سلفية دعوية، توزع غالباً منشورات تنتقد «زواج المتعة» وتقاليد عاشوراء، وترى أن المسلمين ليسوا في إطار دولة إسلامية ولا يمكنهم «إقامة الحد». وتمثل هذه المجموعة، فعلياً، الخصم الديني الأول للشيخ سالم الرافعي ونقيض المجموعات السلفية الجهادية التي تأثرت بالمنشور وهاجمت المكتبة. وأياً كان الاسم هنا، يدور كل هؤلاء في الفلك الفكري للشيخ الرافعي والتسليحي للواء ريفي. ولهذا، يقول أحد المطلعين، أصرّ الرافعي في استعراض الأمن الداخلي الصحافي على محاسبة المحرّضين وليس المرتكبين.
الأبشع من إحراق المكتبة التي كان صاحبها متفائلاً أمس جراء التضامن الكبير معه، ومن كل الصور السابقة، كان المؤتمر الصحافيّ الذي عقد في مكتب قوى الأمن الداخليّ لمعالجة تداعيات الحريق. أحلت القوى الأمنية الشيخ السلفيّ سالم الرافعي محل الأجهزة القضائية والمحاكم والأجهزة الأمنية وحتى دار الإفتاء. وبدا أمام الكاميرات، في حضرة جهاز رسمي لبناني، أن عفو الرافعي عن سروج يتيح له العودة إلى بيته. أما إدانة الرافعي له فتحلل دمه ومكتبته. يجري ذلك على الهواء مباشرة، في ظل استماتة العميد (في قوى الأمن الداخلي) بسام الأيوبي للحصول على حكم شرعي من الرافعي بوجوب محاسبة المعتدين على المكتبة لا المحرّضين على الاعتداء فقط. هنا طرابلس.
Envoyé de mon Ipad
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire
Bienvenu