mardi 31 décembre 2013

في العلاقات المسيحية الاسلامية وقائع ومبادىء


الميلاد مع غصّةٍ للعام 2013
أ.د. أسعد السحمراني

أطلّت ذكرى الميلاد لهذا العام 2013 وفي الحلق غُصّةٌ مقرونةٌ بالأسى والعذابات الوجدانيّة لأنّ من هم أكثر مودّةً للمسلمين؛ أيّ القساوسة والرهبان قد تعرّضوا للخطف وحجز الحرّيّة، ولحالةٍ ملتبسةٍ أو غامضة من المعاملة التي لا تناسب الإسلام الحنيف الذي جاء في آيات قرآنه الكريم: "ولتجدنّ أقربهم مودّةً للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأنّ منهم قسّسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون" (سورة المائدة، الآية 82).

لقد اطلّ الميلاد هذا العام ولا يزال الغموض يلفّ حال المطرانين والرهبان الثلاثة ومعهم راهبات معلولة الجريحة، وفي كلّ هذا عدوانٌ على الإسلام الحقّ الذي أسّس للمودّة التي هي المستوى الأعلى من الحميمية في العلاقات بين المسلمين والمسيحيين، وإذا بالمجموعات التي تشوّه المفاهيم، وتتطرّف مغاليةً وهي بعيدة عن الموقف السويّ، تحاول أن تفرض مفاهيم خاطئة على المسلمين، وممارساتٍ ظالمة على المسيحيين.

إنّ من خطفوا أو أسروا أو خرّبوا أديرة وكنائس، هم جماعاتٌ لم يفقهوا حقيقة الإسلام، ونذكّر هنا بأوّل ميثاقٍ إسلاميٍّ مسيحيّ عُقد في عصر النبوّة على شكل عهد أمانٍ لمسيحيي نجران، وفي نصّ العهد: "ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمّة محمّد النبيّ عليه الصلاة والسلام، على أنفسهم، وملّتهم، وأرضهم، وأموالهم، وغائبهم، وشاهدهم، وعيرهم، وبعثهم، وأمثلتهم. لا يُفتن أسقفٌ من أسقفيّته، ولا راهبٌ من رهبانيّته، ولا واقه (شمّاس) من وقاهيّته على ما تحت أيديهم من قليل أو كثير". فما حواه هذا النصّ الميثاقيّ يأتي ليفضح ممارسات المتطرّفين الذين لم يحترموا ما وجّه إليه الإسلام.

ثمّ إنّ الأمّة العربيّة تشكل وحدةً اجتماعيّة بكلّ مكوّناتها ولا تكون علاقات المواطنة على أساس الطائفة أو المذهب أو العرق بل التنوّع هو الأصل، والمواطنة الصالحة هي معيار التمييز.

إنّ الأفكار المسمومة، والممارسات الظالمة ولّدت غصّة في الميلاد أذهبت الفرحة، ولكنّها لن تستطيع أن تلغي الرجاء الذي يحمله كلّ مؤمنٍ، وهذا الرجاء إنّما هو آمالٌ مفتوحة الآفاق أساسها أن للباطل جولة وللحقّ كلّ الجولات، فالنصر للحقّ وعندها تحلّ الفرحة وتزول الغصّة وتعود للأعياد بهجتها مع تأمين الكرامة لكلّ مواطن والحريّة للمطرانين والرهبان والراهبات.
غصّة الميلاد لن يتولّد عنها يأسٌ، لأنّه لا يأس مع الإيمان.
حلبا، عكار، لبنان
في 24/12/2013
==========================================
نصّ العهد النبوي لنصارى نجران ملزم للمسلمين في كلّ مكان وزمان
محمد السماك
)أمين عام اللجنة الوطنية للحوار الإسلامي المسيحي - بيروت(

في قراءة مـتأنية لنص العهد النبوي لنصارى نجران استوقفني امران شكليان. الامر الاول هو ان العهد لم يكن لنصارى نجران حصراً. انما للمسيحيين عموما. والامر الثاني هو ان الالتزام الاسلامي بنص العهد لم يكن محددا بمسلمي الفترة الزمنية التي صدر فيها، ولكنه نص ملزم لكل المسلمين في كل زمان ومكان وحتى قيام الساعة. يؤكد الامر الاول ما ورد في مقدمة العهد حيث يقول "هذا كتاب امان من الله ورسوله، اللذين اوتوا الكتاب من النصارى، من كان منهم على دين نجران، وان على شيء من نحل النصرانية، كتبه لهم محمد بن عبدالله، رسول الله الى الناس كافة؛ ذمة لهم من الله ورسوله".
ويؤكد الامر الثاني قوله "انه عهد عهده الى المسلمين من بعده. عليهم ان يعوه ويعرفوه ويؤمنوا به ويحفظوه لهم، ليس لاحد من الولاة، ولا لذي شيعة من السلطان وغيره نقضه، ولا تعديه الى غيره، ولا حمل مؤونة من المؤمنين، سوى الشروط المشروطة في هذا الكتاب. فمن حفظه ورعاه ووفى بما فيه، فهو على العهد المستقيم والوفاء بذمة رسول الله. ومن نكثه وخالفه الى غيره وبدله فعليه وزره؛ وقد خان امان الله، ونكث عهده وعصاه، وخالف رسوله، وهو عند الله من الكاذبين".
في ضوء العهد النبوي الى المسلميين عامة، وفي ضوء الالزام النبوي بنص العهد للمسلمين عامة، وفي ضوء اعتبار من يخالفه او ينكثه او يبدله عاصياً لله ولرسوله، من المهم التوقف اولا امام بنود العهد، ومن ثم مقارنتها بواقع العلاقات الاسلامية – المسيحية وبدور المرجعيات الدينية الاسلامية في التعامل مع هذا الواقع.
ينص العهد في ما ينص عليه(1):
أولا، "ان احمي جانبهم – اي النصارى – وأذبّ عنهم وعن كنائسهم وبيعهم وبيوت صلواتهم ومواضع الرهبان ومواطن السياح، حيث كانوا من جبل او واد او مغار او عمران او سهل او رمل".
ثانيا، "ان احرس دينهم وملتهم اين كانوا؛ من بر او بحر، شرقا وغرباً، بما احفظ به نفسي وخاصتي، واهل الاسلام من ملتي".
ثالثا، "ان ادخلهم في ذمتي وميثاقي واماني، من كل اذى ومكروه او مؤونة او تبعة. وان اكون من ورائهم، ذابا عنهم كل عدو يريدني واياهم بسوء، بنفسي واعواني واتباعي واهل ملتي".
رابعا، "ان اعزل عنهم الاذى في المؤن التي حملها اهل الجهاد من الغارة والخراج، الا ما طابت به انفسهم. وليس عليهم اجبار ولا اكراه على شيء من ذلك".
خامسا، "لا تغيير لأسقف عن اسقفيته، ولا راهب عن رهبانيته، ولا سائح عن سياحته، ولا هدم بيت من بيوت بيعهم، ولا ادخال شيء من بنائهم في شيء من ابنية المساجد، ولا منازل المسلمين. فمن فعل ذلك فقد نكث عهد الله وخالف رسوله وحال عن ذمة الله".
سادسا، "ان لا يحمل الرهبان والاساقفة، ولا من تعبد منهم، او لبس الصوف، او توحد في الجبال والمواضع المعتزلة عن الامصار شيئا من الجزية او الخراج...".
سابعا، "لا يجبر احد ممن كان على ملة النصرانية كرها على الاسلام. "ولا تجادلوا اهل الكتاب الا بالتي هي احسن". ويخفض لهم جناح الرحمة ويكف عنهم اذى المكروه حيث كانوا، واين كانوا من البلاد".
ثامنا، "ان اجرم واحد من النصارى او جنى جناية، فعلى المسلمين نصره والمنع والذب عنه والغرم عن جريرته، والدخول في الصلح بينه وبين من جنى عليه. فإما مُنّ عليه، او يفادي به".
تاسعا، "لا يرفضوا ولا يخذلوا ولا يتركوا هملا، لأني اعطيتهم عهد الله على ان لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين".
عاشرا، "على المسلمين ما عليهم بالعهد الذي استوجبوا حق الذمام، والذب عن الحرمة، واستوجبوا ان يذب عنهم كل مكروه، حتى يكونوا للمسلمين شركاء فيما لهم، وفيما عليهم".
حادي عشر، "لهم ان احتاجوا في مرمة – ترميم - بيعهم وصوامعهم، او شيء من مصالح امورهم ودينهم، الى رفد من المسلمين وتقوية لهم على مرمتها – ترميمها -، ان يرفدوا على ذلك ويعاونوا، ولا يكون ذلك دينا عليهم، بل تقوية لهم على مصلحة دينهم ووفاء بعهد رسول الله موهبة لهم ومنة لله ورسوله عليهم"(2).
لن افيض اكثر من الحديث عن هذا الموقف الديني المبدئي الشرعي التأسيسي لعلاقات المسلمين بالمسيحيين. وهو موقف التزم به الخلفاء الراشدون من بعد النبي عليه السلام، ولعل من اشهر المواثيق التي تؤكد هذا الالتزام، العهدة العمرية لمسيحيي القدس. والمنح التي قدمها الامويون لمسيحيي دمشق لبناء كنائسهم.
ثم انه اضافة الى هذه الثوابت الدينية الملزمة هناك موقف اسلامي عام ملزم ايضا يتمثل في حديث للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم). فعندما سئل: من هو المسلم، اجاب: "المسلم من سلم الناس (أي كل الناس بصرف النظر عن الدين او اللون او العنصر او الثقافة) من يده ولسانه". فلا اذية بعمل (باليد) ولا اذية بكلمة (باللسان). واذا كان هذا هو الموقف العام تجاه الناس كافة، فكيف يجب ان يكون من اولئك الذين وصفهم القرآن الكريم بأنهم "اقرب مودة للذين آمنوا" والذي ربط هذه المودة الايمانية بأن "منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون"؟.
اذا عرضنا لواقع العلاقات الاسلامية – المسيحية اليوم في ضوء ما تتسم به من مظاهر سلبية هنا او هناك، لا نستطيع الا ان نتساءل هل ان المرجعيات الدينية الاسلامية نجحت في نشر هذه المبادىء في الثقافة الدينية العامة، وهل عملت على تكريسها في السلوك اليومي للمسلمين؟ يحملنا على طرح هذا السؤال احداث ووقائع تتوالى فصولا في دول عربية مثل العراق، وفي دول غير عربية مثل نيجيريا، وفي دول اسلامية مثل ماليزيا، تشير الى ما يتناقض، او الى ما لا ينسجم، مع المبادىء والقيم النبوية الملزمة للمسلمين جميعا. ويعود ذلك اما الى الجهل بهذه الالتزامات، او الى تجاهلها. وتاليا الى تغييبها عن الثقافة العامة في بعض المجتمعات الاسلامية. ولو انها كانت حاضرة ومؤثرة وفاعلة كما يجب، لما امتدت يد لاغتيال كاهن هنا او راهب هناك. ولما فجرت كنيسة هنا او بيت مسيحي هناك.
ولأن الطبيعة لا تعرف الفراغ، فان تغييب هذه الثقافة يشرع الابواب امام ثقافة اخرى معاكسة، يمليها الجهل بالثوابت الايمانية ويملي مبادئها التطرف والغلو بما هو كراهية الآخر ومحاولة لإلغائه.
عندما يتعرض الاسلام الى الافتراء والى محاولات التشويه والتضليل، غالبا ما تبادر مرجعيات مسيحية كبرى الى التصدي لهذه المحاولات والى تسفيهها...
من الموقف من منع الحجاب في فرنسا، الى الموقف من الفيلم المسيء لرسول الله عليه السلام في هولندا، الى الرسوم الكاريكاتورية في الدانمارك، الى منع بناء المآذن في سويسرا... انتهاء بالدعوة الى حرق القرآن الكريم في كنيسة مجهولة في بلدة صغيرة من ولاية فلوريدا الاميركية. فقد ارتفعت اصوات مرجعيات مسيحية تندد وتستنكر، من الفاتيكان، الى مجلس الكنائس العالمي، الى مجلس الكنائس الوطني الاميركي، الى اتحاد الكنائس الإنجيلية، الى مجلس كنائس الشرق الاوسط. وشاركت في رفع هذه الاصوات مرجعيات دينية يهودية في الولايات المتحدة واوروبا.
حتى عندما ارتكبت جريمة 11 سبتمبر 2001 رأينا كيف بادر البابا الراحل يوحنا بولس الثاني الى استضافة مؤتمر اسلامي – مسيحي في الفاتيكان من اجل ان يعلن الموقف المبدئي وهو "ان الإجرام لا دين له".
لا شك في ان هذه المواقف المسيحية الاخلاقية السامية تتعزز وتستقوي بمواقف لمرجعيات اسلامية من قضايا تتعلق بانتهاك حقوق مسيحيين هنا او بالافتراء على المسيحية هناك، علما بأن مثل هذه المواقف ليست مفترضة على قاعدة المعاملة بالمثل، انما هي مفروضة على قاعدة الالتزام بالاسلام شرعة ومنهاجاً.
من هنا نعود الى بيت القصيد، وهو اهمية دور المرجعيات الدينية الاسلامية في هذه المرحلة الدقيقة التي تمر فيها العلاقات الاسلامية المسيحية في العالم العربي وفي العالم، في التعريف بالثوابت الايمانية النبيلة التي قامت عليها هذه العلاقات منذ العهد النبوي والتي يجب ان تقوم عليها اليوم وغداً وحتى نهاية الزمن... ولنا كمسلمين في رسول الله اسوة حسنة.
واخيرا، اودّ ان اختم هذه الكلمة القصيرة بالآية القرآنية الكريمة(3) التي تقول:
"
من أهل الكتاب أمة قائمة يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات واولئك من الصالحين".
------------
(1)
مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، جمعها محمد حميد الله – دار النفائس – بيروت، الطبعة السادسة 1987.
(2)
المرجع السابق نفسه ص. 189.
(3)
آل عمران 113 و114.

في رحاب مدرسة السيّد المسيح
العلامة السيّد علي فضل الله*
بسم الله الرّحمن الرّحيم
في الخامس والعشرين من شهر كانون الأوّل، نستعيد ذكرى ولادة نبيّ من أنبياء الله العظام، عيسى ابن مريم. هذه الولادة الّتي لم تكن ظروفها عاديّة، هي ولادة معجزة بكلّ مجرياتها... وهذه المناسبة هي مناسبة للمسلمين كما هي للمسيحيّين.
ثم إنَّ حبّ المسلمين للسيّد المسيح، ليس حبّ مصلحة، أو مسايرة، ولا انعكاساً لواقعٍ طائفيٍّ أو سياسيّ، إنّه جزء من ديننا، من إيماننا، تعلَّمناه من القرآن، كتاب الله الّذي يحدِّثنا عن موقع هذا النبيّ: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}--(آل عمران:45).
هو حبّ تعلّمناه من رسول الله(ص)، كان يُكنّيه بـ"أخي"، وكان يقول :"أنا أولى النّاس بعيسى ابن مريم"، وعندما كان عليّ(ع) يصفه، كان يقول: "كان إدامه الجوع، وسراجه باللّيل القمر، وظلاله في الشّتاء مشارق الأرض ومغاربها، ولم تكن له زوجة تفتنه، ولا ولد يحزنه، ولا مال يلفته، ولا طمع يُذلّه، دابّته رجلاه، وخادمه يداه...".
لقد تحدّث الرّسول(ص) والأئمّة(ع) طويلاً عن السيّد المسيح(ع)، عن عظمته، عن مواقفه، عن حكمته الّتي نحتاج إليها اليوم، ونقف عندها لنتعلّم منها، وما أكثرها!:

طرد اللّصوص من الهيكل
بعض النّاس، أيّام السيّد المسيح، كانوا يستغلّون بيت المقدس لممارسة معاملاتهم الربويّة، حتّى إنَّ هناك من الكهنة اليهود من كان يستفيد من موقعه الدّيني لتحقيق مطامع خاصّة. وكانوا يستغلّون احترام النّاس لمواقعهم، ظنّاً منهم أنّه لن يتجرّأ عليهم أحد. كانوا يتلطّون خلف المقدس لتحقيق الإثراء، ويُمالئون السّلطة، ولو اضطرّهم الأمر لتحريف ما جاء به نبيّهم موسى.. واكتشف السيّد المسيح الأمر، ورغم شخصيّته المتسامحة الّتي عُرِف بها ، دخل بيت المقدس على هؤلاء حاملاً سوطه، وطردهم من الهيكل، وكان يقول: "أخرجوا اللّصوص من الهيكل".
وتظلّ هذه الحادثة درساً لنا: كيف نميّز وندقّق بين المبادئ ومن يحمل لواء هذه المبادئ، وكيف نميّز بين المقدس ومن يحمل لواءه. إنّ المبادئ والمقدّسات، أيّها الأحبّة، ثابتة لا تتلوّن، أمّا الأشخاص فقد يتلوّنون... لهذا، فإنّ النّقد ضروريّ، وإن اضطرّ الأمر لرفع الصّوت عالياً، لأنّ الضّرر هنا لا ينعكس على الأشخاص فقط، بل ينسحب على الدّين كلّه، كما نشهد في كلّ ساحاتنا...

محاكمة الذّات قبل الآخرين
درسٌ آخر نحتاج إليه في أدبيّاتنا الاجتماعيّة والسياسيّة. مرّة، اجتمع كثير من النّاس ليرجموا امرأةً ثبت عليها حدّ الزّنا، وبدا عليهم الغضب والشّماتة، وقبل البدء بالتّنفيذ، وقف السيّد المسيح بين الجموع محدّداً شرطاً للّذي يريد أن يشارك في الرّجم، قائلاً: "من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر".
هكذا كان السيّد المسيح يعلّم الإنسان كيف يُحاكم نفسه قبل أن يُحاكِم الآخرين. لذلك لم يرجمها أحد.. لماذا؟ لأنّ كلاً منهم رأى خطاياه في هذه المرأة، وقد توازي خطيئة تلك المرأة أو أكبر منها.

فضيلة الإنصاف
ومن مدرسة السيّد المسيح، أنّه مرّ وبعض حواريّيه بجيفة كلب، فأمسك الحواريّون أنوفهم لشدّة رائحتها، وقالوا ما أشدّ نتن رائحته! ولكنّ السيّد المسيح قال: "ما أشدّ بياض أسنانه!". لقد أراد أن ينبّهنا إلى فضيلة أساسيّة هي فضيلة الإنصاف.. عليك أن تكون منصفاً.. ألم ترَ في هذا الكلب، الجيفة، غير رائحته؟ لماذا لا تنظر إلى الجانب المشرق أيضاً فيما تراه؟ لماذا لا ترى غير النّصف الفارغ من الكوب؟ تفاءل، وانظر إلى الجانب الجميل من الحياة، ودعِ الإحباط حتّى ولو كان الواقع جيفةً نتنة.
كانوا يسمّونه المعلّم، مع كلّ خطوة كان يترك درساً، وعبرة، وموعظة: عندما مرّ يوماً بقبر يُعذَّب صاحبُه، ثم مرّ به السنة التّالية، فإذا هو قد رُفع العذاب عنه، فقال : يا ربّ، أنا مررت بهذا القبر وهو يعذّب، ثم مررت به هذا العام وها هو العذاب قد رُفع عنه، فأوحى إليه: يا روح الله، لهذا الرّجل ولد صالح بلغ الحلم، فأصلح درباً، وآوى يتيماً، فغفرت له بسبب ابنه... فالتفت إلى حواريّيه وقال: "هكذا ربّوا أولادكم".

المودّة للنّصارى
أيّها الأحبّة، عندما جاء رسول الله بالإسلام، جاء مصدّقاً للتّوراة والإنجيل، وسعى لعلاقة مميّزة مع الدّيانة المسيحيّة، إذ يقول القرآن الكريم: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ}--(المائدة: 82).
وسيشهد التّاريخ، وفي كلّ المراحل اللاحقة، هذه العلاقة المميّزة الّتي لم يعكّر صفوها غير واقع سياسيّ منحرف أو ظالم، أو تكفيريّين حاربوا كلّ الّذين يختلفون معهم. هؤلاء كانوا ولا يزالون مشكلةً للمسلمين والمسيحيّين، وهذا ما حصل في الغرب، عندما استغلّ الدّين لتحقيق طموحات في الشّرق، فكانت الحروب الصليبيّة.
وهنا نشير إلى ما قاله أحد المستشرقين: "لقد عامل المسلمون العرب المسيحيّين بتسامح عظيم من القرن الأوّل الهجري، ونستطيع أن نحكم بحقّ أنّ القبائل المسيحيّة التي اعتنقت الإسلام، اعتنقته باختيارها وإرادتها".
أيّها الأحبّة: إنَّ نظرة الإسلام إلى المسيحيّة جزء من منظومته التربويّة والروحيّة، وهي ليست حالة استثنائيّة، فالدّين واحد، تدرّج الأنبياء في تبيان أحكامه وشرائعه، إلى أن اكتملت صورته بما جاء به رسول الله خاتم الأنبياء. {قُولُواْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}--(البقرة: 136).
وأكثر من هذا، فالإسلام يعتبر أنّه لا يكتمل إيماننا حتّى نؤمن بهم جميعاً: {وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ...}--(البقرة:285).

القطيعة ممنوعة
ثم إنّ الإيمان ليس مجرّد فكرة وإحساس، إنما هو تعبير في السّلوك، فالقطيعة ممنوعة، والهجران والتّدابر حالة شاذّة لا شأن للدّين بها، فالتّلاقي والتّواصل على المبادئ المشتركة هو الأساس: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ...}(آل عمران:64).
وفي حال نشوب الخلافات، فللإسلام تصوّره: الحوار ثُمّ الحوار. والحوار مفتاح القلوب، ونصف الطّريق لبلوغ الحلّ.. وحتى لا يكون الحوار أسير القناعات المسبقة، فقد حدّد الإسلام طبيعة هذا الحوار، ليكون سقفه ليس الحسن بل الأحسن: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...}--(العنكبوت: 46).
أمّا إذا تعطَّلت لغة الحوار، وظلَّ الاختلاف قائماً، فقد فرمل الإسلام التّصادم، ولم يجز القتل والقتال، فالقتال مبرّره الوحيد هو ردّ الاعتداء: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}--(الممتحنة: 8).
هذه السّياقات كلّها والتّوجيهات، تحتّم علينا أن تكون علاقتنا، مسلمين ومسيحيّين، علاقة مسؤولة، تنطلق من قواعد العيش وليس مجرّد تعايش الضّرورة.
أيّها الأحبّة، إنّ الحديث عن كلّ هذا المظهر الوحدويّ، لا يعني عدم وجود اختلافات قد تمسّ العقيدة، كما تدخل في تفاصيل الشّريعة، إلا أنّنا ندعو إلى أن يبقى الحوار الفكريّ والعقيديّ والتّشريعيّ مفتوحاً على طاولة البحث العلميّ، بعيداً عن أجواء التوتر والشحن الطّائفي أو الدّيكور..

مواجهة الإقصائيّين
أيّها الأحبّة، في هذه الذّكرى الجامعة المتّفقة على صاحب الذّكرى وعلى قيمه، قيم المحبّة والرّأفة والتّسامح، فإنّ مسؤوليّتنا كمسلمين أن نشيع مناخ التّواصل والودّ والتّآلف، بدلاً من أجواء الرّفض والإنكار الّتي تولّد شعوراً عند المسيحيّين، بعدم الأمان أو الاستقرار أو الخوف على المستقبل والمصير.. علينا جميعاً أن نقف بوجه كلّ الإلغائيّين والإقصائيّين ورافعي رايات العنف..
وبدلاً من أن نواجه بعضنا بعضاً بالخوف والخوف المضادّ، والتّهديد والردّ عليه بين ساحات وجودنا شرقاً وغرباً، فلْنعمل معاً لإنقاذ هذا العالم مما يُعاني، من اللاروح، واللاقيم، واللاأخلاق، وتراجع العلاقات الإنسانيّة...
الآخرون، كلّ الآخرين، يريدون أن تكون الأديان هي المشكلة، ونحن نقول لهم، بل هي الحلّ، وعلينا أن نثبت لهم ذلك..
تعالوا لنقف صفّاً في مواجهة الكفر الّذي يريد إبعاد الدّين عن ساحة الحياة، ووضعه دوماً في قفص الاتهام..
تعالوا لنقف صفّاً واحداً في مواجهة الّذين يريدون تهويد مهد السيّد المسيح، وتهويد القدس، ولنعمل على إعادتها إلى إشراقة الرّسالات..
تعالوا لنقف صفّاً واحداً في مواجهة الاستكبار، فهو ليس مسيحيّاً ولا إسلامياً، إنما هو أزمة للبشريّة...
لنصغ إلى محبّة السيّد المسيح، ورحمة السيّد المسيح، وعنفوان السيّد المسيح في وجه الباطل، لتسلم الحياة وتنمو.
في ذكرى يوم الميلاد، نتوجّه بالتّهنئة للمسلمين والمسيحيّين، سائلين الله سبحانه وتعالى أن يعيد هذا العيد علينا بالوحدة والألفة والمحبّة.
{وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً* ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ}--(مريم: 33-34).
*(خطبة صلاة الجمعة يوم 21/12/2012 م)

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

Bienvenu